فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

وفي تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان:
الأول: أنه تعالى لما ذكر أنه يغني كلًا من سعته، وأنه واسع أشار إلى ما هو كالتفسير لكونه واسعًا فقال: {وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} يعني من كان كذلك فإنه لابد وأن يكون واسع القدرة والعلم والجود والفضل والرحمة.
الثاني: أنه تعالى لما أمر بالعدل والإحسان إلى اليتامى والمساكين بيّن أنه ما أمر بهذه الأشياء لاحتياجه إلى أعمال العباد، لأن مالك السماوات والأرض كيف يعقل أن يكون محتاجًا إلى عمل الإنسان مع ما هو عليه من الضعف والقصور، بل إنما أمر بها رعاية لما هو الأحسن لهم في دنياهم وأخراهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عاشور:

جملة {ولله ما في السموات وما في الأرض} معترضة بين الجمل التي قبلها المتضمنّة التحريض على التقوى والإحسان وإصلاح الأعمال من قوله: {وإن تحسنوا وتتقّوا} [النساء: 128] وقوله: {وإن تصلحوا وتتّقوا} [النساء: 129] وبين جملة {ولقد وصينا} الآية.
فهذه الجملة تضمّنت تذييلات لتلك الجمل السابقة، وهي مع ذلك تمهيد لما سيذكر بعدها من قوله: {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب} إلخ لأنها دليل لوجوب تقوى الله.
والمناسبة بين هذه الجملة والتي سبقتها: وهي جملة {يغن الله كُلاَ من سعته} [النساء: 130] أنّ الذي له ما في السماوات وما في الأرض قادر على أن يغني كلّ أحد من سعته.
وهذا تمجيد لله تعالى، وتذكير بأنّه ربّ العالمين، وكناية عن عظيم سلطانه واستحقاقه للتقوى. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَللَّهِ مَا في السماوات وَمَا فِي الأرض} فلا يتعذر عليه الإغناء بعد الفرقة، ولا الإيناس بعد الوحشة ولا ولا وفيه من التنبيه على كمال سعته وعظم قدرته ما لا يخفى، والجملة مستأنفة جيء بها على ما قيل لذلك {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} أي أمرناهم بأبلغ وجه، والمراد بهم اليهود والنصارى ومن قبلهم من الأمم، والكتاب عام للكتب الإلهية، ولا ضرورة تدعو إلى تخصيص الموصول باليهود والكتاب بالتوراة، بل قد يدعى أن التعميم أولى بالغرض المسوق له الكلام وهو تأكيد الأمر بالإخلاص، و{مِنْ} متعلقة بوصينا أو بأوتوا {وإياكم} عطف على الموصول وحكم الضمير المعطوف أن يكون منفصلًا ولم يقدم ليتصل لمراعاة الترتيب الوجودي {أَنِ اتقوا الله} أي وصينا كلًا منهم ومنكم بأن اتقوا الله تعالى على أن {إن} مصدرية بتقدير الجار ومحلها نصب أو جر على المذهبين، ووصلها بالأمر كالنهي وشبهه جائز كما نص عليه سيبويه، ويجوز أن تكون مفسرة للوصية لأن فيها معنى القول. اهـ.

.قال القرطبي:

قال بعض العارفين: هذه الآية هي رَحَى آي القرآن، لأن جميعه يدور عليها. اهـ.

.قال الفخر:

المراد بالآية أن الأمر بتقوى الله شريعة عامة لجميع الأمم لم يلحقها نسخ ولا تبديل، بل هو وصية الله في الأولين والآخرين. اهـ.
قال الفخر:
قوله: {أَنِ اتقوا الله} كقولك: أمرتك الخير، قال الكسائي: يقال أوصيتك أن أفعل كذا وأن تفعل كذا، ويقال: ألم آمرك أن ائت زيدًا، وأن تأتي زيدًا، قال تعالى: {أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام: 14] وقال: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ البلدة} [النمل: 91]. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} عطف على جملة {إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء: 116].
وجُعل الأمر بالتقوى وصيةً: لأنّ الوصية قول فيه أمرٌ بشيء نافع جامع لخير كثير، فلذلك كان الشأن في الوصية إيجاز القول لأنّها يقصد منها وعي السامع، واستحضاره كلمة الوصية في سائر أحواله.
والتقوى تجمع الخيرات، لأنّها امتثال الأوامر واجتناب المناهي، ولذلك قالوا: ما تكرّر لفظ في القرآن ما تكرّر لفظ التقوى، يعنون غير الأعلام، كاسم الجلالة.
وفي الحديث عن العرباض بن سارية: وَعَظَنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا يا رسول الله: كأنَّهَا موعظة مُوَدّعٍ فأوْصِنا، قال: «أوصيكم بتقوى الله عزّ وجلّ والسمع والطاعة».
فذكْرُ التقوى في {أن اتّقوا الله} إلخ تفسير لجملة {وصيّنا}، فأنْ فيه تفسيرية.
والإخبارْ بأنّ الله أوصى الذين أوتوا الكتاب من قبل بالتقوى مقصود منه إلْهاب همم المسلمين للتهمّم بتقوى الله لئلاّ تفضلهم الأمم الذين من قبلهم من أهل الكتاب، فإنّ للائتساء أثرًا بالغًا في النفوس، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} [البقرة: 183]، والمراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى، فالتعريف في الكتاب تعريف الجنس فيصدق بالمتعدّد.
والتقوى المأمور بها هنا منظور فيها إلى أساسها وهو الإيمان بالله ورسله ولذلك قوبلت بجملة {وإن تكفروا فإنّ لله ما في السماوات وما في الأرض}.
وبيَّن بها عدم حاجته تعالى إلى تقوى الناس، ولكنّها لصلاح أنفسهم، كما قال: {إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عنكم ولا يرضى لعباده الكفر} [الزمر: 7]. اهـ.

.قال الثعالبي:

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وإياكم...} الآية: لفظٌ عامٌّ لكل مَنْ أوتيَ كتابًا، فإنَّ وصيَّته سبحانه لعباده لم تَزَلْ منذُ أوجَدَهُمْ.
قال الأستاذ أبو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ في «سِرَاجِ المُلُوكِ»: ولما ضَرَبَ ابْنُ مُلْجِمٍ عليًّا رضي اللَّه عنه، أُدْخِلَ منزلَهُ، فاعترته غشيةٌ، ثم أفاقَ، فَدَعَا أولادَهُ؛ الحَسَنَ، والحُسَيْنَ، ومحمَّدًا، فقال: أوصيكُمْ بتقْوَى اللَّهِ فِي الغَيْبِ والشهادةِ، وكلمةِ الحقِّ في الرضَا والغَضَب، والقَصْدِ في الغنى والفَقْر، والعَدْلِ عَلَى الصديقِ والعَدُوِّ، والعملِ في النشاطِ والكَسَل، والرضا عن اللَّه في الشدَّة والرخَاءِ؛ يا بَنِيَّ، ما شَرٌّ بعْدَهُ الجَنَّةُ بِشَرٍّ، وَلاَ خَيْرٌ بَعْدَهُ النَّارُ بِخَيْرٍ، وكلُّ نَعِيمٍ دُونَ الجَنَّةِ حَقِيرٌ، وَكُلُّ بَلاَءٍ دُونَ النَّارِ عافيةٌ، مَنْ أَبْصَرَ عَيْبَ نفسِهِ شُغِلَ عَنْ عَيْبِ غيره، ومَنْ رَضِيَ بقَسْم اللَّهِ لم يَحْزَنْ على ما فاته، ومَنْ سَلَّ سيْفَ بَغْيٍ قُتِلَ به، ومَنْ حَفَر لأخيهِ بِئْرًا وقَعَ فيها، ومَنْ هَتَكَ حجابَ أخِيهِ، كَشَفَ اللَّهُ عوراتِ بَنِيهِ، ومَنْ نَسِيَ خطيئته، استعظم خَطِيئَةَ غَيْره، ومَنِ استغنى بعقله زَلَّ، وَمَنْ تكبَّر على الناس ذَلَّ، ومَنْ أُعْجِبَ برأْيه ضَلَّ. ومَنْ جالَسَ العلماء وُقِّرَ، ومَنْ خَالَطَ الأَنْذَالَ احتقر، ومَنْ دَخَل مَدَاخلَ السُّوء اتهم، ومَنْ مَزَحَ استخف بِهِ، ومَنْ أكْثَرَ مِنْ شيءٍ عُرِفَ به، ومَنْ كثُر كلامه كَثُرَ خَطَؤُهُ، ومن كثر خَطَؤُهُ قل حياؤه، ومن قَلَّ حياؤه قَلَّ ورعُهُ، ومَنْ قَلَّ وَرَعُهُ ماتَ قلبه، ومَنْ مات قلبه دخَلَ النار، يَا بَنِيَّ، الأدَبُ خَيْرُ ميراثٍ، وحُسْنُ الخُلُقِ خَيْرُ قَرِينٍ، يا بَنِيَّ، العافيةُ عَشَرَةُ أجزاءٍ: تسْعَةٌ منها في الصَّمْتِ إلاَّ عَنْ ذكر اللَّهِ، وواحدٌ في ترك مُجَالَسَةِ السُّفَهاء، يَا بَنِيَّ، زِينَةُ الفَقْر الصَّبْرُ، وزِينَةُ الغِنَى الشُّكْرُ، يا بَنِيَّ، لا شَرَفَ أعَزُّ من الإسلام، وَلاَ كَرَمَ أعَزُّ من التقوى، يا بَنِيَّ، الحِرْصُ مفتاحُ البَغْيِ، ومطيَّةُ النَّصَبِ، طوبى لمن أخْلَصَ للَّه عَمَلَهُ وعِلْمَهُ، وحُبَّهُ وَبُغْضَهُ، وأَخْذَهُ وتَرْكَهُ، وكَلاَمَهُ وَصَمْتَهُ، وقَوْلَهُ وفِعْلَهُ. انتهى. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {وَإِن تَكْفُرُواْ} عطف على قوله: {اتقوا الله} والمعنى: أمرناهم وأمرناكم بالتقوى، وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض.
وفيه وجهان:
الأول: أنه تعالى خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها، فحق كل عاقل أن يكون منقادًا لأوامره ونواهيه يرجو ثوابه ويخاف عقابه، والثاني: أنكم إن تكفروا فإن لله ما في سمواته وما في أرضه من أصناف المخلوقات من يعبده ويتقيه، وكان مع ذلك غنيًا عن خلقهم وعن عبادتهم، ومستحقًا لأن يحمد لكثرة نعمه، وإن لم يحمده أحد منهم فهو في ذاته محمود سواء حمدوه أو لم يحمدوه. اهـ.

.قال الألوسي:

وقوله تعالى: {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا في السماوات وَمَا فِي الأرض} عطف على {وَصَّيْنَا} بتقدير قلنا أي وصينا وقلنا لكم ولهم إن تكفروا فاعلموا أنه سبحانه مالك الملك والملكوت لا يضره كفركم ومعاصيكم، كما أنه لا ينفعه شكركم وتقواكم وإنما وصاكم وإياهم لرحمته لا لحاجته وفي الكلام تغليب للمخاطبين على الغائبين، ويشعر ظاهر كلام البعض أن العطف على {اتقوا الله} وتعقب بأن الشرطية لا تقع بعد أن المصدرية، أو المفسرة فلا يصح عطفها على الواقع بعدها سواء كان إنشاءًا أم إخبارًا، والفعل {وَصَّيْنَا} أو أمرنا أو غيره، وقيل: إن العطف المذكور من باب:
علفتها تبنًا وماءًا باردًا

وجوز أبو حيان أن تكون جملة مستأنفة خوطب بها هذه الأمة وحدها، أو مع الذين أوتوا الكتاب {وَكَانَ الله غَنِيًّا} بالغنى الذاتي عن الخلق وعبادتهم {حَمِيدًا} أي محمودًا في ذاته حمدوه أم لم يحمدوه، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وقيل: إن قوله سبحانه: {وَللَّهِ مَا في السموات} إلخ تهديد على الكفر أي أنه تعالى قادر على عقوبتكم بما يشاء، ولا منجى عن عقوبته فإن جميع ما في السموات والأرض له، وقوله عز وجل: {وَكَانَ الله غَنِيًّا حَمِيدًا} للإشارة إلى أنه جل وعلا لا يتضرر بكفرهم. اهـ.

.قال الطبري:

يعني بذلك جل ثناؤه: ولله جميع مُلْك ما حوته السموات السبع والأرَضون السبع من الأشياء كلها. وإنما ذكر جل ثناؤه ذلك بعقب قوله: {وإن يتفرَّقا يغن الله كلا من سعته}، تنبيهًا منه خلقَه على موضع الرغبة عند فراق أحدهم زوجته، ليفزعوا إليه عند الجزع من الحاجة والفاقة والوَحْشة بفراق سَكنه وزوجته وتذكيرًا منه له أنه الذي له الأشياء كلها، وأن من كان له ملك جميع الأشياء، فغير متعذّر عليه أن يغنيَه وكلَّ ذي فاقة وحاجة، ويؤنس كلَّ ذي وحشة.
ثم رجع جل ثناؤه إلى عذل من سعى في أمر بني أبيرق وتوبيخهم، ووعيدِ من فعل ما فعل المرتدّ منهم، فقال: {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم}، يقول: ولقد أمرنا أهل الكتاب، وهم أهل التوراة والإنجيل {وإياكم}، يقول: وأمرناكم وقلنا لكم ولهم: {اتقوا الله}، يقول: احذروا الله أن تعصوه وتخالفوا أمره ونهيه {وإن تكفروا}، يقول: وإن تجحدوا وصيته إياكم، أيها المؤمنون، فتخالفوها {فإنّ لله ما في السموات وما في الأرض}، يقول: فإنكم لا تضرُّون بخلافكم وصيته غير أنفسكم، ولا تَعْدُون في كفركم ذلك أن تكونوا أمثالَ اليهود والنصارى، في نزول عقوبته بكم، وحلول غضبه عليكم، كما حلَّ بهم إذ بدَّلوا عهده ونقضوا ميثاقه، فغيَّر بهم ما كانوا فيه من خَفض العيش وأمن السِّرب، وجعل منهم القردة والخنازير. وذلك أن له ملك جميع ما حوته السموات والأرض، لا يمتنع عليه شيء أراده بجميعه وبشيء منه، من إعزاز من أراد إعزازه، وإذلال من أراد إذلاله، وغير ذلك من الأمور كلها، لأن الخلق خلقه، بهم إليه الفاقة والحاجة، وبه قواهم وبقاؤهم، وهلاكهم وفناؤهم وهو {الغني} الذي لا حاجة تحلّ به إلى شيء، ولا فاقة تنزل به تضطرُّه إليكم، أيها الناس، ولا إلى غيركم {والحميدُ} الذي استوجب عليكم أيها الخلق الحمدَ بصنائعه الحميدة إليكم، وآلائه الجميلة لديكم. فاستديموا ذلك، أيها الناس، باتقائه، والمسارعة إلى طاعته فيما يأمركم به وينهاكم عنه. اهـ.